النصب الحجرية

ظاهرة معمارية وحضارية تميزت بها المملكة ويفوق عددها تلك الموجودة في بلدان أخرى.

د.عبدالعزيز بن سعود الغزي


الأعمدة المنصوبة (النصب الحجرية) ظاهرة حضارية من صنع الإنسان القديم الذي عاش قبل ظهور الإسلام بآلاف السنين. وتوجد مواقع في المملكة العربية السعودية لهذه الظاهرة الحضارية يفوق عددها أي عدد لها في أي بلد آخر من البلدان التي عمرت في العصور السابقة على ظهور الإسلام بقرون عديدة. ولهذه الظاهرة الأثرية المعمارية دلالة حضارية كبيرة لم يتنبه إليها الباحثون بعد.

.التهاب الكبد «أ»منذ لحظات الحمل الأولى، تنتاب الأم سلسلة من نوبات القلق والأرق إذ ينشغل بالها بكثير من الأمور المهمة التي تراوح بين الأحوال الصحية والمالية. كما تنمو هذه المشاعر ويزداد القلق والتوتر كلما زاد نمو طفلها وكبر سنه. وهكذا، تطفو تساؤلات عدة على الالمملكة العربية السعودية تمتلك كنوزًا حضارية تتجاوز نطاق الحصر لتنوعها وتعددها، بعضها ظاهر على سطح الأرض، وبعضها على أوجه الجبال، وبعضها تحت سطح الأرض الحالي. وتشهد هذه الكنوز على عصور حضارية عديدة مرّت على أرض المملكة العربية السعودية ما يدل على أنها بلد خير كثير، كلما زلّ منه شيء ظهر بدلاً عنه شيء آخر. وجلب هذا الخير الإنسان إليها ليعمرها على مر القرون، ذلك الإنسان الذي ترك فيها آثاره الدالة على كثافته البشرية. ومن تلك الآثار مواقع الأعمدة المنصوبة التي ظن بعضهم أنها مواقع لها صلة بالفلك سائرًا خلف تفسيرات باحثين غربيين لموقع ستون هنج في بريطانيا أو مواقع الهنود الحمر في أمريكا.
والأعمدة المنصوبة عبارة عن نصب يشكلها الإنسان بجزء أعلى يكون في بعض المواقع على هيئة مثلث وفي أخرى بمقطع مستطيل أو مربع، وبجزء أسفل يكون مقطعه مستطيلاً أو مربعًا أو مثلثًا ليثبت في الأرض لثلاثين أو أربعين سنتمترًا. أما ارتفاع بعضها فيبلغ الثلاثة أمتار وقد يزيد، ومنها ما يقل إلى أن يصل إلى خمسين سنتمترًا ارتفاعًا، وربما قل عن ذلك. وتظهر تلك الأعمدة إما بخطوط متعرجة أو بدوائر فارغة أو خطوط متوازية. ويوجد على بعضها حروفٌ ورسومٌ وكتابات قديمة، وتوجد أحيانًا مع القديم كتابات إسلامية. لم يعن البحث الأثري العلمي المنظم في المملكة العربية السعودية بدراسة هذه الظاهرة حتى الآن، علمًا أن المعرفة بها تعود إلى عام 1962، عندما وقف الباحثان الكنديان فردريك وينت ووليم ريد على موقع الرجاجيل في الجوف وقدما له وصفًا في كتابٍ لهما نُشر عام 1973 بعنوان: «مدونات قديمة من شمال غربي المملكة العربية السعودية». وجاء فيه أن الأعمدة تتكون من خمسين مجموعة، وكل مجموعة تتكون من عمود أو أكثر. ثم وقف على المكان ذاته فريق مسح شمال المملكة العربية السعودية عام 1977، وأورد له وصفًا مختصرًا. ونشر بعد ذلك يوريس زارينس بحثًا عنه في حولية أطلال، حولية الآثار في المملكة العربية السعودية، العدد الثالث، عام 1979، أكد فيه أنه موقع له صلة بالمدافن إذ وجدت فيه مدافن ركامية ومواد فخارية أرخها بالألف الرابع قبل الميلاد، أي قبل ستة آلاف عام من يومنا هذا.
عُرف بعد هذا الموقع موقع آخر يقع في وسط المملكة العربية يقع في منطقة متوسطة بين مدينة الرياض ومدينة الخرج الحالية بالقرب من بحيرة تعرف باسم بحيرة نساح. ونساح وادٍ من أهم أودية اليمامة في منطقة الرياض. تقع هذه الأعمدة في حوض وادي أوسط وهو أحد روافد وادي حنيفة. وشبيه بهذا الموقع موقع آخر وجد على بعد أربع مئة كيلومتر شمالاً في منطقة القصيم. فبينما يقع الأول في بطن وادٍ، يقع الثاني على ظهر هضبة مرتفعة تعرف باسم صفراء المستوي تمتد بين محافظة الزلفي في منطقة الرياض ومحافظة الشماسية في منطقة القصيم.
ووجدت مجموعة من الأعمدة المنصوبة في موقع يعرف باسم خبة التماثيل في منطقة تبوك, وتتصف الأعمدة في هذا الموقع بأنها عريضة بثلاثة أضعاف عرض الأعمدة المنصوبة في المواقع الأخرى، ويصل أحيانًا عرض الواحد منها إلى أكثر من المتر إضافة إلى أنها تحمل كتابات قديمة وإسلامية ورسومًا صخرية محزوزة. ومع العرض اللافت للانتباه تتسم بالارتفاع الملحوظ. وجاء الكشف عن موقعين للأعمدة المنصوبة في وادي مرخ ومريخة في محافظة السليل في منطقة الرياض، وفي كلا الموقعين تخلو الأعمدة المنصوبة من أي أشياء داخلها. وفي بعض الأحوال تُكون دوائر فارغة يظهر على نصب واحد منها رسوم وحروف قديمة محزوزة. ويمكن أن تظهر النصب في صفوف متوازية تاركة بينها مسافة تزيد على المترين. وعُثر بعد ذلك الاكتشاف على موقع يقع على حافة وادي الشوكي الواقع إلى الشمال الشرقي من مدينة الرياض. وفي هذا الموقع تنتظم النصب بخط متعرج. وإلى الشمال من مدينة الرياض بعشرين كيلومترًا يوجد موقع للأعمدة المنصوبة في منخفض الدغم الذي يقع إلى الشرق مباشرة من مقر مهرجان الجنادرية. ومع تنفيذ الأعمال الميدانية التنقيبية في موقع رجوم صعصع في محافظة تيماء في منطقة تبوك وجدت أعمدة منصوبة على حدود منشآت ركامية حجرية منتصبة على الزوايا ونقاط الوسط في المدافن الدائرية والمستطيلة والمربعة. وأثبت التنقيب الأثري أن المنشآت الركامية ذات العلاقة هي مدافن من مدافن نهاية الألف الرابع وبداية الألف الثالث قبل الميلاد. وعُرف حديثًا موقع في منطقة حائل وجدت فيه أعمدة منصوبة بالطريقة ذاتها التي تنتظم فيها الأعمدة المنصوبة في موقع وادي أوسط، وموقع وادي الشوكي وموقع هضبة المستوى. وقد وردت كلمة (النصب) في آية اللحوم المحرمات، قال تعالى: }حرمت عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب{ (سورة المائدة، الآية 3). يفهم من هذه الآية الكريمة أن النصب مواقع تذبح عليها القرابين. وعند التمعن في التكوينات التي تظهر فيها تلك الأعمدة، وأماكن وجودها، ونوعية الآثار التي توجد مع الأعمدة في المكان الواحد، وظهور كتابات قديمة على بعضها، ووجودها مع المدافن الركامية، واتصالها بها بشكل مباشر في بعض المواقع، ووجودها منصوبة في المدافن الركامية في موقع تيماء، ووجودها منصوبة في المدافن الركامية في أبيار بني مرة في المملكة الأردنية الهاشمية. وعند التمعن في تلك الحقائق نجدها تدل دلالة قاطعة على أن الأعمدة المنصوبة ظاهرة حضارية.
وجميع المواقع التي جاء ذكرها تقع في بيئات توجد حولها تجمعات بشرية متنقلة. فكل المواقع المذكورة في هذا المقال تقع على حواف أودية ضخمة، يُمثل بعضها أنظمة نهرية قديمة. وهذه النوعية من المواقع تدل على أن المواقع توجد في بيئات رعاة يحتشدون في المكان الذي فيه توجد النصب وحوله خلال فصول السنة التي يتوفر خلالها العشب والماء.